البارحة كانت علامات الحزن بادية عليه..
عاد إليه ذلك الشعور الذي يقضي على ابتساماته وضحكته اليومية.
فكان يتصفح أفكاره قبل النوم بشيء من العنف، حيث لم يكن لديه أمل بأن تخرج هذه الأفكار إلى الوجود على عكس الأيام السابقة، وكأن شيئا ما قضى على حلم بدا وكأنه خاتمة الأحلام الذي سيوقظ جميع الأحلام النائمة.
فما الذي جرى؟
في الساعة الرابعة والنصف من فجر الليلة السابقة؛
كان قد أوشك على أن يفقد تركيزه المعروف قبل أن يبادر إلى ورقته ليكتب إليها أولى كلماته القديمة.
فكتب إلى نفسه ما شاء من الكلمات، وقبل الصباح وجد نفسه يبعث إليها الإيميل، وكأنه يقول لها لقد كنت أتحدث معك في غيابك.
وعاد إليها بعد الظهر ليؤكد لها أن خيالها سهر معه البارحة ولم يفارقه للحظة، وأن عليها أن تفتح باب حديقتها لتريه من أزهار عمرها الجميلة ما شاءت.
وإلى هذا الحد كانت سعادته مثل الأب الذي يشاهد ابنه يحمل حقيبة المدرسة للمرة الأولى في أول يوم له بالمدرسة.
وفي الليلة التالية كانت على موعد مع أهلها تنتظرهم لتشكو إليهم وتسر إليهم حكاياتها المعهودة،
وقالت له لاحقا:
لقد ظننتك حاضرا مع من حضر في تلك الليلة، ولكنك لا تسمع إلا صوتي ولا تشاهد إلا صورتي.
على أنه عندما تشاكا فيما بعد أخبرها أنها لا تغيب عن تفكيره، وأنه أصبح يخشى عليها من نفسه الباحثة عن القلق، وأنه يتمنى منها أن تلون حياته كما لونت أحلامه وتفكيره.
ولكنها كانت على موعد آخر مع الخوف الغريزي.
فقالت له:
يجب أن ترحل ولا تحضر جلساتي العائلية، فأنت تفسد عليَّ عقدي الاجتماعي، وتبدو كما لو أنك غريبا يريد أن يسرق مني شيئا مهما.
وأنك مع كل حسناتك لا تعادل لدي قيمة الخوف الذي يعتريني كلما ترددت على بالي.
وأنني أتمنى أن تكون على مسافة أبعد مما بدوت عليه قبل ساعات.
وأن الشيء الذي تريد أخذه سوف لن ينفعك، بل سيحول حياتك إلى صراع أبدي مع الحب المجهول.
كان يستمع إليها في هدوء مصطنع، فهناك موجة هائلة في قلبه تكاد أن تخرج لتأخذها من مكانها إليه، ولكنه جبر حزن تلك الليلة بالصمت، وفضل أن يعود إلى أدراجه خالي الوفاض من أن يأخذ ما لا يستحق.
فهي كانت واضحة تماما لديه، بينما بدا هو وكأنه لصا نبيلا، ومن عادات هذا اللص أن يسرق ما يريد بمزاج من لا يريد.
في وقت كانت صورتها الجميلة في قلبه أقوى لديه من شعور الحاجة إليها.
فقال لها:
حسنا، كما تريدي.
سوف أنسحب، فهذا لم يكن انسحابي الأول
ولا الهزيمة الأولى.
وقال بأنها ستظل واحدة من أهم الذكريات لديه.
ولو قدّر له أن يعيش طويلا فإن هواءها الذي تنفسه لفترة وجيزة سوف يزفره مع آخر زفرات الروح قبل الموت.
وعاد إلى فراشه ليستريح من تعب الليليتين الماضيتين، ليكتشف قبل أن يغفوا بقليل أن القلب نام قبله من اليأس.
وأنها طلبت منه أن لا يشغل نفسه بالتفكير فيها،
فكان ذلك التشويش غير المقصود هو الذي أيقضه من النوم في اليوم التالي ليستأنف رحلته إليها.
( ديسمبر 2012م - محمد العجمي)
المفضلات